علم النفس التطوري: كيف صاغ الانتقاء الطبيعي عقولنا، رغباتنا، وصراعاتنا اليومية

علم النفس التطوري: كيف صاغ الانتقاء الطبيعي عقولنا، رغباتنا، وصراعاتنا اليومية

لماذا ننجذب لأنماط معينة من الأشخاص؟

لماذا يتكرر الغضب، الغيرة، الخوف، والطموح عبر الثقافات؟

ولماذا تتشابه صراعات البشر اليوم مع صراعات أسلافهم، رغم تغيّر العالم جذرياً؟

في كتابه المرجعي "علم النفس التطوري" يقدّم ديفيد باس إجابة جذرية ومثيرة للجدل مفادها أن العقل البشري لا يتكون من خلال التنشئة الاجتماعية والبيئة وتربية الأبوين فقط بل هو نتاج ملايين السنين من الانتقاء الطبيعي، صُمِّم ليحل مشكلات البقاء والتكاثر في بيئات أسلافنا.

يشرح هذا الكتاب كيف نفكّر ولماذا نفكّر بهذه الطريقة أصلاً.

 

  ما هو علم النفس التطوري؟

يعرف باس علم النفس التطوري بوصفه علماً يدرس الآليات النفسية المتطورة، أي تلك البرامج العقلية التي تشكّلت عبر الزمن لأنها زادت فرص البقاء أو الإنجاب.

الفكرة الرئيسية لعلم النفس التطوري بسيطة لكن آثارها عميقة فهي تتلخص في أنه "إذا كان الجسم نتاج التطور، فالعقل كذلك" فعلم النفس التطوري يشير إلى أن "العواطف، الدوافع، أنماط التفكير، وحتى ما نعدّه اختيارات شخصية" هي في حقيقتها ليست عشوائية بل هي حلول تطورية لمشكلات متكررة واجهها البشر من أجل:

  • إيجاد الطعام.
  • تجنب المفترسات.
  • اختيار الشريك.
  • حماية الأبناء.
  • بناء التحالفات.
  • مواجهة الخداع والعدوان.

 

تفكيك سوء الفهم الشائع

يخصص باس جزءاً مهماً لتفنيد سوء الفهم حول هذا الحقل، وأبرزها:

·            علم النفس التطوري لا يقول إن السلوك حتمي. فوجود آلية متطورة لا يعني أننا مجبَرون على سلوك معين، بل أننا مهيؤون له في ظروف معينة.

·            السلوك لا يبرر الأخلاقيات. شرح أصل الغيرة أو العنف لا يعني تبريرهما، بل فهم جذورهما.

·            لا يتجاهل الثقافة. الثقافة وفق باس تعمل فوق بنية نفسية مشتركة، مثل برنامج يُشغَّل بإعدادات مختلفة.

 

الآليات النفسية: عقل متعدد الأدوات

يرفض باس فكرة "العقل العام" الذي يحل كل المشكلات، ويقترح بدلاً من ذلك أن العقل يتكون من وحدات متخصصة، كل منها تطور لمهمة محددة، مثلاً حدد المشاعر التي تمث أدوات البقاء ومنها:

  • الخوف → آلية لتجنب التهديد
  • الاشمئزاز → آلية لتجنب التسمم والمرض
  • الغيرة → آلية لحماية العلاقة
  • الحب → آلية لتعزيز الارتباط طويل الأمد

 

الاختيار الجنسي: حيث تبدأ معظم الصراعات

أحد أهم محاور الكتاب هو الاختيار الجنسي، وهو المجال الذي اشتهر فيه باس عالمياً.

لماذا تختلف تفضيلات الرجال والنساء؟

يشرح باس أن الاختلافات لا تعود إلى "ثقافة ذكورية" فقط، بل إلى اختلاف التكاليف الإنجابية، وتظهر هذه الأنماط عبر ثقافات متعددة، وهو ما يدعمه باس بدراسات ميدانية واسعة، ويحلل باس التفضيلات بناء على أساسين وهي:

  • المرأة تتحمل الحمل، الولادة، والرضاعة.
  • الرجل يستطيع نظرياً الإنجاب بتكلفة أقل.

نتيجة لذلك:

  • تميل النساء لتفضيل المكانة، الموارد، والاستقرار.
  • يميل الرجال لتفضيل مؤشرات الخصوبة والصحة.

الغيرة، الخيانة، والصراع بين الجنسين

يتعامل الكتاب بجرأة مع موضوعات حساسة، مثل:

  • لماذا يغار الرجال جنسياً أكثر؟
  • ولماذا تغار النساء عاطفياً أكثر؟
  • لماذا الخيانة ظاهرة متكررة رغم رفضها الأخلاقي؟

يرى باس أن هذه الأنماط تعكس مخاطر تطورية مختلفة:

  • الرجل يخشى الاستثمار في نسل ليس له.
  • المرأة تخشى فقدان الموارد والالتزام.

الفهم هنا لا يهدف للتبرير، بل للكشف عن المنطق الخفي خلف الانفعالات.

يرى ديفيد باس أن العلاقات الجنسية قصيرة المدى تمثل استراتيجية تطورية ظهرت لأنّها قدّمت فوائد مختلفة للرجال والنساء

فالرجال قد يحققون زيادة في فرص الإنجاب بتكلفة التزام منخفضة

بينما قد تحصل بعض النساء على موارد فورية أو تقييم شريك محتمل

لكن هذه الاستراتيجية تحمل مخاطر عالية مثل الغيرة وفقدان السمعة والأمراض

 

العدوان، المكانة، وبناء التحالفات

يدرس باس العدوان كاستراتيجية تطورية في سياقات معينة:

  • الدفاع عن الموارد
  • حماية السمعة
  • ردع المنافسين
  • اكتساب المكانة

قدّم ديفيد باس تفسيرًا دقيقًا لمفهومي المكانة الاجتماعية وبناء التحالفات بوصفهما آليتين تطوريتين مركزيتين أسهمتا في بقاء الإنسان ونجاحه عبر التاريخ التطوري، ويرى باس أن السعي إلى المكانة هو وسيلة مباشرة للوصول إلى الموارد والحماية وفرص التزاوج، فالأفراد ذوو المكانة الأعلى كانوا تاريخيًا أكثر قدرة على جذب الدعم وفرض النفوذ وتأمين احتياجاتهم واحتياجات ذريتهم، لذلك تطورت لدى البشر حساسية عالية للسمعة، والتقدير الاجتماعي، وموقعهم النسبي داخل الجماعة، وهو ما يفسر قوة مشاعر الفخر والخزي والقلق من التهميش.

لا تتحقق المكانة عبر العدوان فقط بل من خلال مسارين تطوريين رئيسيين وفّرا مزايا تكيفية في سياقات مختلفة، ولا يزالان حاضرين بأشكال حديثة في السياسة والاقتصاد والمؤسسات الاجتماعية، وتلك

·      الأول هو الهيمنة، القائم على القوة الجسدية أو التهديد.

·      الثاني هو الهيبة القائمة على الكفاءة والمعرفة أو المهارات النادرة.

أما بناء التحالفات فيراه باس استجابة تطورية لحقيقة أن الإنسان كائن اجتماعي يعتمد على الآخرين للبقاء. زادت التحالفات فرص نجاح الانسان عبر العصور البدائية في الصيد والدفاع والنزاعات وتبادل الموارد، لذلك تطورت آليات نفسية دقيقة لتنظيم العلاقات مثل الثقة ورد الجميل ومراقبة الغش ومعاقبة المخالفين، تفسر هذه الآليات لماذا نولي أهمية كبيرة للولاء، ولماذا يثير الخداع أو الخيانة ردود فعل انفعالية قوية.

يؤكد باس أن العقل البشري مهيأ لتقييم الشركاء المحتملين في التحالفات بناءً على سمعتهم وموثوقيتهم وقدرتهم على تقديم المنفعة مستقبلاً، ومن هنا فإن المكانة والتحالفات مترابطتان؛ فالمكانة العالية تسهّل بناء التحالفات، والتحالفات القوية تعزز المكانة.

في المحصلة يوضح باس أن كثيرًا من صراعات السلطة والشبكات الاجتماعية والسلوكيات التنظيمية المعاصرة ما هي إلا امتداد حديث لمنطق تطوري قديم ما يزال يوجّه السلوك الإنساني بعمق

 

الأبوة، الأمومة، وصراع الاستثمار

يتناول الكتاب بعمق مسألة الاستثمار الوالدي، موضحاً لماذا:

  • تستثمر الأمهات غالباً أكثر؟
  • ولماذا يكون عدم اليقين الأبوي عاملاً مؤثراً في السلوك الذكوري؟
  • ولماذا تظهر صراعات خفية بين الآباء والأبناء؟

 

لماذا يُعد هذا الكتاب مهماً اليوم؟

في زمن تكثر فيه التفسيرات السطحية للسلوك الإنساني، يقدّم علم النفس التطوري عدسة أعمق، وأحياناً مزعجة، لكنها ضرورية. قيمة كتاب تتمثل فيما يقدّمه لفهم الإنسان:

  • يفسر سلوك الفرد دون عزله عن التاريخ التطوري
  • يربط النفس بالبيولوجيا دون اختزالها
  • يفتح باباً لفهم أعمق للعلاقات، السلطة، والرغبة

 

خلاصة

يمثل علم النفس التطوري كما يقدّمه ديفيد باس إطار تفسيري شامل يعيد تعريف فهمنا للعقل والعاطفة والسلوك، وهو دعوة للنظر إلى أنفسنا لا ككائنات منفصلة عن الماضي، بل كامتداد حي لتاريخ طويل من التكيف والصراع والبحث عن البقاء والمعنى. من يفهم هذا المنظور، لا يرى البشر كما يظهرون فقط، بل كما صُمِّمت عقولهم أن تعمل.

 

المرجع

ديفيد م. باس، علم النفس التطوري: العلم الجديد للعقل، ترجمة مصطفى حجازي، مركز الثقافة العربي، 2009