عندما يتراجع الاتفاق الجمعي وتظهر المقاومة
أزمة التقبل بين الأجيال كظاهرة اجتماعية متغيّرة
في العلوم الاجتماعية يعتبر "الواقع الاجتماعي" جوهراً ثابتاً يمكن قياسه بصورة موضوعية وهو نتيجة لبناء جماعي للمعنى يتبلور من خلال التفاعل بين الأفراد والمؤسسات والجماعات المعرفية. هذا المفهوم المركزي في النظرية البنائية الاجتماعية أو الـ Social Constructionism يفترض أن ما نعتبره "حقيقة" أو "طبيعياً" ليس خارجاً عن السياق الثقافي بل متفقاً عليه جماعياً عبر الزمن والممارسات.
حين يتغيّر ذلك الاتفاق بفعل عوامل اجتماعية وتكنولوجية أو معرفية يبدأ جزء من المجتمع في الإحساس بأن العالم "غير مألوف" أو "غير مقبول". هذه ليست حالة من الجنون أو التراجع النفسي، بل توهّن الإطار المعرفي الذي شكّل فرضياتنا السابقة عن الواقع. يتجسد هذا التوتر في رفض بعض الفئات للتغيير الاجتماعي وإصرارها على أن يبقى الجيل الجديد نسخة طبق الأصل من ذواتهم ومعاييرهم.
السؤال الذي يفرضه الطرح هو: لماذا يتعذّر تقبّل التغيير من قبل بعض الناس؟
الواقع كاتفاق معرفي: إطارٍ للبناء الاجتماعي
من منظور برجر ولَكمان في The Social Construction of Reality، يتم إنتاج الواقع الاجتماعي عبر تفاعلات متكررة تُحوّل المعاني إلى سلوكيات مؤسَّسة ومقبولة ثقافياً. الواقع ليس نسقاً مادياً جامداً بل شبكة من المعاني التي يشارك في إنشائها أفراد ومؤسسات.
عندما يتغيّر هذا البناء وتختلّ مفاهيم سابقة عن الهوية والقيمة والانتماء ينهار الواقع، وبالتالي ينهار الإطار المعرفي الذي يعتمد عليه البعض لتفسير تلك الظواهر، ومن هنا نشهد انتقالاً معرفياً وتغييراً جذرياً في السلوك مع انعكاسات ثقافية ونفسية تظهر خصوصاً عند التجمهر أو التحشد.
العامل النفسي: مقاومة فقدان الاتساق المعرفي
المقاومة ليست رفضاً للتجربة الجديدة بحد ذاتها، بل رفض لفقدان الاتساق المعرفي الداخلي الذي يوفّره الاتفاق الجمعي القديم. حين يكون معنى ظاهرة ما متأصّلاً في نظام تشارك فيه مراجع ثقافية واجتماعية وتمثّلات رمزية فإن تغيُّر ذلك المعنى يولّد حالة من الارتباك المعرفي. هذا ما تفسّره علوم النفس الاجتماعية كاستجابة للتهديد المعرفي، فهو ليس رفضاً لوقائع الحياة، بل لخلل في إطار تفسيرها. يتماشى هذا مع فهم التنظير الاجتماعي البنائي الذي يرى أن الجماعات تخلق وتُعيد إنتاج الفئات والمعاني كتقاطع بين الاعتقاد واللغة والممارسات المشتركة.
الجيل الجديد كنظام معاصر لإعادة بناء الاتفاقات
الجيل الجديد لا يسعى إلى تقليد الماضي، بل إلى تشكيل نمط جديد من المعنى الاجتماعي. لم يعد الاشتراك في نفس الصور التقليدية للانتماء أو التعبير هو الهدف، وإنما بناء اتفاقات دلالية جديدة تتسق مع بيئة معرفية تتسم بتسارع المعلومات وكثافة الرموز وتداخل الأطر القيمية، وبالتالي فإن الممارسات التي تثير جدلاً مجتمعياً بين الفئات العمرية في المجتمع هي لا تسعى في مضمونها وشكلها إلى إلغاء الماضي، بل تعيد تأطيره داخل بيئة معرفية معاصرة.
مظاهر وممارسات احتفالات اليوم الوطني "الخليج العربي نموذجاً"
نجاح تحليلنا النظري يتجلى عند دراسة ممارسات الاحتفال باليوم الوطني في المجتمعات المعاصرة. في الحالة التقليدية كانت الاحتفالات تُرصَد عبر رموز رسمية وسلوكية ثابتة "عروض مؤسسية، تأطير معرفي موحّد، وتمثّلات بصرية موحّدة"، أما اليوم ومع دخول الشباب في قطاع معاصر من المعنى نرى مظاهر احتفالية جديدة "لباس، رموز بصرية مبتكرة، أداءات اجتماعية غير مألوفة للقيم التراثية نفسها"، وذلك يؤكد بأنه ليس هناك "رفض للاحتفال الوطني" بالمعنى الجوهري، بل تحوّل في الاتفاق المعرفي حول ما يعنيه الاحتفال وكيفية التعبير عنه.
الرفض ليس رفض الواقع… بل رفض لإعادة تأطيره
الذين يرفضون هذه التغيرات لا يرفضون الوقائع الجديدة كليّاً، بل يشعرون بأنها تقوّض الإطار المعرفي الذي كانوا يعتمدون عليه لترسيخ معنى العالم. من منظور علم الاجتماع والأنثروبولوجيا المعرفية، هذا ليس انحرافاً معرفياً، بل مرحلة انتقالية في إنتاج وتشخيص معنى الواقع الاجتماعي.
النظريات الحديثة في فهم الأجيال مثل النقد الاجتماعي لفرضية "الاختلافات الجيلية" تشير إلى أن فكرة الأجيال نفسها هي بناء اجتماعي يُستخدم كأداة تبسيط لتفسير ما يحدث، وليس ككيان موضوعي قائم بحد ذاته. في الواقع تشير الدراسات إلى أن الاختلافات الواقعية بين الأجيال أقل دلالة من التصنيفات المجتمعية التي ننتجها حولها.
استنتاج
التوتر بين الأجيال في تقبّل التغيّرات هو في حقيقته آليات إنتاج الواقع كشبكة من الاتفاقات المعرفية التي تُعيد تشكيل نفسها باستمرار، وعندما تتغيّر هذه الاتفاقات يشعر البعض بأنها تهدّد ثبات العالم الذي عرفوه. ومن المهم أن نؤكد الآن أن الهدف من هذا التحليل ليس تبرير كل مظهر من مظاهر التحوّل بل أن يبيّن أن التغيير المعرفي هو مسار مستمر لا يمكن إيقافه عبر التمسّك بحقائق ثابتة خارج سياقها الاجتماعي.