"بول ريكور" الفرنسي الذي كشف لنا مفهوم الرموز والاستعارات كأدوات عميقة لبناء المعنى، وكيف يمكننا استخدامها لتشكيل سرديتنا الخاصة وبناء رموزنا التي تعكس تجربتنا وتوجّه أفعالنا ومسارنا الوجودي

"بول ريكور" الفرنسي الذي كشف لنا مفهوم الرموز والاستعارات كأدوات عميقة لبناء المعنى، وكيف يمكننا استخدامها لتشكيل سرديتنا الخاصة وبناء رموزنا التي تعكس تجربتنا وتوجّه أفعالنا ومسارنا الوجودي
مصدر الصورة موقع الويكيبيديا

تُقرأ أعمال بول ريكور بوصفها محاولة منهجية لبناء مسار تأويلي بين الذات والمعنى، بين التجربة واللغة، وبين الشك والإيمان بالعقل. لا ينطلق ريكور من أساس ميتافيزيقي مغلق، بل من سؤال مفتوح: كيف نفهم أنفسنا عبر ما نؤول؟

التأويل بوصفه مساراً لا نتيجة: يرى ريكور أن الفهم لا يُمنح مباشرة، بل يُكتسب عبر مسار طويل من التأويل. المعنى لا يسكن النص ولا الذات وحدهما بل يتشكّل في المسافة بينهما. هذه المسافة ليست عيباً بل شرطاً معرفياً؛ إذ تتيح التحرر من الإسقاط النفسي ومن الادعاء بامتلاك الحقيقة النهائية. بذلك يتحول التأويل إلى ممارسة نقدية تُدرّب الوعي على الصبر المعرفي.

من الشك إلى الاستعادة "هرمنيوطيقا مزدوجة": يميّز ريكور بين هرمنيوطيقا الشك (كما عند ماركس ونيتشه وفرويد) التي تفكك الأوهام الكامنة خلف الخطاب، وهرمنيوطيقا الاستعادة التي تعيد للمعنى إمكانه الإيجابي بعد التفكيك. لا يقف عند الهدم بل يرى أن النقد شرطٌ للثقة الواعية، وأن التفكيك يمهّد لإعادة بناء دلالي أعمق.

الذات السردية "الهوية كحكاية": يقدّم ريكور مفهوم الهوية السردية بوصفه بديلاً عن الهوية الجوهرانية، حيث يجد أن الإنسان لا يعرف نفسه عبر تعريف ثابت، بل عبر سردٍ يربط أفعاله بذاكرته وتوقعاته، فالزمن الإنساني يصبح مفهوماً حين يُروى، والحياة تكتسب معنى حين تُصاغ في قصة قابلة للتأويل. بهذا المعنى يقدم ريكور السرد ليس بكونه تزييناً بل بنية وجودية.

اللغة كأفق للمعنى لا كأداة: عند ريكور اللغة ليست وسيلة نقل محايدة، بل فضاء توليدي للمعنى. الاستعارة والرمز والسرد توسّع إمكانات الفهم وتفتح أفقاً يتجاوز دوره المباشر والوظيفي، لذلك يمنح ريكور الرموز مكانة مركزية فهي تقول أكثر مما تُصرّح، وتُخفي بقدر ما تكشف.

الأخلاق والاعتراف: ينتهي مشروع ريكور إلى بعد أخلاقي يتمثل في الاعتراف بالآخر كشرطٌ لفهم الذات. فالفعل الأخلاقي مع كونه يقوم على قاعدة صلبة فهو مبني على قدرة سردية تضع الذات في موقع المسؤولية داخل شبكة من العلاقات، والعدالة هنا ليست مجرد قانون بل أفق اعتراف متبادل.

بشكل عام يمثل بول ريكور نموذجاً أوروبياً للفلسفة التي توازن بين النقد والبناء، بين التفكيك والمعنى، وبين الذات والنص. مشروعه ليس إجابة جاهزة، بل طريقة تفكير، هو يقد رسالة ملخصها أن نفهم عبر التأويل، وأن نعيش المعنى بوصفه احتمالاً مفتوحاً لا حقيقة مغلقة.