أهم اكتشافات القرن العشرين: النماذج والأساطير والرموز بوصفها البنية الخفية للعالم الحديث

أهم اكتشافات القرن العشرين: النماذج والأساطير والرموز بوصفها البنية الخفية للعالم الحديث

ينطلق هذا المقال من فرضية مركزية مفادها أن أعظم اكتشافات القرن العشرين لم تكن مادية أو تقنية بالمعنى الضيق، بل كانت اكتشافًا معرفيًا عميقًا يتمثل في فهم النماذج والأساطير والرموز بوصفها البنية التحتية غير المرئية التي تنظّم السلوك الإنساني، وتوجّه القرارات، وتُعيد إنتاج الواقع الاجتماعي والاقتصادي والتقني. يكشف هذا الاكتشاف عن أن الإنسان لا يعيش داخل الوقائع كما هي، بل داخل سرديات تمنح الوقائع معناها، وداخل نماذج رمزية تُبسّط العالم وتجعله قابلًا للفهم والتكرار.

يُظهر علم الأنثروبولوجيا الحديثة، منذ أعمال كلود ليفي-شتراوس، أن الأسطورة ليست بقايا تفكير بدائي، بل نظامًا معرفيًا عالي الكفاءة، يعمل على تحويل التعقيد إلى بنى قابلة للتداول الاجتماعي. تعمل الأسطورة كنموذج تفسير، وتُعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال لأنها لا تشرح العالم فقط، بل تُعلّم الأفراد كيف يتصرّفون داخله. وفي السياق نفسه، قدّم كارل غوستاف يونغ تصورًا مفصليًا حين بيّن أن الرموز والأساطير تنبع من اللاوعي الجمعي، وأن النماذج الأصلية (Archetypes) ليست خيالات ثقافية، بل أنماط نفسية متكررة تُعيد تشكيل التجربة الإنسانية عبر التاريخ.

يُعد التحول الجوهري في القرن العشرين هو الانتقال من التعامل مع الأسطورة كحكاية، إلى التعامل معها كنموذج تشغيلي. لم يعد السؤال: هل الأسطورة حقيقية؟ بل أصبح: كيف تعمل؟ وكيف تُنظّم الإدراك والسلوك والاختيار؟ هذا التحول هو ما مهّد لظهور علوم النمذجة، ونظريات الأنظمة، والذكاء الاصطناعي، والخوارزميات السلوكية، حيث لم تعد الحقيقة مطلقة، بل أصبحت أكثر الأنماط فاعلية وقابلية للتكرار.

تقوم التكنولوجيا الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، على أسطورة مركزية يمكن تسميتها بـ أسطورة المشاركة الجماعية في خلق المعرفة. تفترض هذه الأسطورة أن القيمة لا تُنتج فرديًا، بل تتكوّن تراكميًا عبر مساهمات صغيرة من ملايين المستخدمين. تُبنى النماذج اللغوية، وقواعد البيانات، وأنظمة التوصية، على فكرة أن المعرفة مورد مشاع، وأن الأنماط المتكررة في السلوك واللغة والتفضيلات يمكن تحويلها إلى بنية ذكية تتنبأ وتوجّه وتُعيد الإنتاج. هذه ليست مجرد فكرة تقنية، بل سردية كبرى أعادت تعريف معنى المؤلف، والخبرة، والسلطة المعرفية.

تعكس خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي هذا المنطق الأسطوري بوضوح. لا تبحث هذه الخوارزميات عن الحقيقة، بل عن النموذج الأكثر جذبًا وتأثيرًا وقابلية للانتشار. تُراقب التجارب الفردية، وتُقارنها، ثم تُنمذج "التجربة الأفضل" وتُعيد ضخّها في الوعي الجمعي، في عملية تشبه الطقوس الأسطورية التي تختبر الأفعال ثم تُقدّس الناجح منها. يتحوّل الفرد هنا إلى وحدة بيانات، وتتحوّل حياته اليومية إلى مادة خام تُستخدم لبناء سرديات أكبر: ما الذي يُحب، ما الذي يُخيف، ما الذي يُثير، وما الذي يُقنع.

تُظهر هذه الديناميكية أن قولبة الأفراد عبر الأحداث والسرديات ليست مجازًا فلسفيًا، بل عملية واقعية قابلة للرصد والقياس. يُعاد تشكيل الوعي من خلال تكرار نماذج معينة من القصص، والرموز، وصور النجاح والفشل، بحيث يبدأ الفرد في رؤية نفسه والعالم من خلال قوالب جاهزة. ينسجم هذا مع التحليل اليونغي الذي يرى أن الوعي الفردي يتماهى لا شعوريًا مع الأركيتايب السائد في اللحظة التاريخية، سواء كان أركيتايب البطل، أو الضحية، أو المستكشف، أو المنقذ.

يرى الباحث في الأساطير ميرسيا إلياد أن المجتمعات الحديثة لم تتخلّ عن الأسطورة، بل أعادت صياغتها بلغة علمية وتقنية. تحوّلت الطقوس إلى إجراءات، وتحولت الآلهة إلى أنظمة، وتحولت الأساطير إلى سرديات تقدمها وسائل الإعلام والتقنية بوصفها "طبيعية" و"علمية". لكن الجوهر بقي واحدًا: البحث عن معنى، عن نظام، وعن شعور بالسيطرة داخل عالم شديد التعقيد.

يُفضي هذا الفهم إلى نتيجة جوهرية مفادها أن القوة الحقيقية في العصر الحديث لا تكمن فقط في امتلاك التكنولوجيا، بل في القدرة على تصميم النماذج والسرديات والرموز التي تُغذّي هذه التكنولوجيا. من يملك النموذج يملك الاتجاه، ومن يملك السردية يملك الوعي الجمعي. ولهذا، يصبح فهم الأساطير والنماذج ليس تراثاً شعبياً، بل ضرورة معرفية واستراتيجية لفهم الاقتصاد، والسياسة، والإعلام، وحتى الذات الإنسانية.

يخلص هذا المقال إلى أن أهم أحداث القرن العشرين والتي مهدت للتقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي هو اكتشاف كيف يمكن للعقل أن يُنتج المعنى عبر النماذج والرموز والأساطير. وأن القرن الحادي والعشرين لا يُدار بالبيانات وحدها بل بالأساطير التي تُعطي البيانات معناها. وبين الإنسان والتقنية تقف الأسطورة بوصفها الجسر الخفي الذي لا يزال حتى اليوم يُعيد تشكيل العالم.