الرموز: رسائل من اللاوعي

الرموز: رسائل من اللاوعي

يوجد معنى عميق داخل ذواتنا لكل ما نراه من أشياء وتكنولوجيا واشخاص وأماكن، يحمل هذا المعنى مشاعر ودلالات وتوقعات لا تبنى على تجاربنا الشخصية بل على اللاوعي الجمعي، الانسان كائن رمزي يحول ما يراه الى علامات وظيفتها أن تكون جسراً بين ما هو ظاهر وبين ما هو مضمر في اللاوعي والجمع الثقافي، فهي تعمل كرسائل صامتة تنبثق من أعماق النفس والجماعة تمكننا من التواصل مباشره مه كل ما هو حولنا.

 

كيف تعمل العلامات والرموز على تسهيل عملية التواصل وتكوين العلاقات؟

لا بدّ أولاً من التمييز بين "العلامة" و"الرمز". العلم الذي يدرس العلامات والرموز وتأثيراتها ودورها التفاعلي هو "السيميولوجيا"(أو Semiotics     . Encyclopedia Britannica

  • بحسب Ferdinand de Saussure، تُكوّن العلامة من "دالّ (form / signifier)"و"مدلول (meaning / signified)  الدالّ هو الصورة ، الكلمة، الرسم، الصوت، الون....، أما المدلول فهو المفهوم أو الفكرة التي يُستدعى بها، العلاقة بين الدالّ والمدلول بحسبه هي علاقة اتفاق اجتماعي ليست طبيعية أو فطرية. Media Studies
  • بينما يرى Charles Sanders Peirce أن العلامة تتعدى ثنائية “الدال والمدلول” إلى ثلاثية: "العلامة/التمثيل (representamen)  ""المرموز إليه (object) ""تفسير المتلقّي" (interpretant) أي أن العلامة تصبح فعّالة حين تُفسّر من قبل عقل أو وعي. مجلة حكمة+2
  • أي شيء ساءً كان كلمة أو مكان لون أو رائحة أو حركة أو مكان يمكن أن يتحول إلى علامة، ويصبح رمزاً عندما يُحمّل بمعنى داخل الثقافة أو العلاقات الاجتماعية. cs.princeton.edu+2ScienceDirect+2

بهذا الفهم تتعدى العلامات والرموز كونها سطحية أو عشوائية إلى كونها وسائط معنى عميق، تتداخل فيها الثقافة مع العقل اللاوعي والجمع.

 

ما أهمية الرموز في المجتمعات القديمة والحديثة؟

منذ الأزل لجأت الحضارات إلى استخدام العلامات للتعبير عن أفكار ومعتقدات ومشاعر لا يمكن أن تُنقل بالكلام الصريح، فالكلمات لا تعبر دائماً عن المعنى بذات السرعة والدقة التي تعبر عنها العلامات في الدين والطقوس وحتى في العمارة والزخرفة والملبس والعادات، ومن هنا أصبح كل شيء حولنا مليء بعلامات تحمل دلالات راسخة في العقل الجمعي، وأصبحت تلك العلامات ناقل للمشاعر مثل “القداسة، الانتماء، الهوية، القوة، الجمال، الاحترام” بدون شرح بالكلام، فمثلاً لون معين في لباس طقوسي، شكل هندسي في عمارة مسجد، نقش في جدار كلها رموز تتحدث إلى اللاوعي والجمع.

من هذا المنطلق وُلد علم السيميولوجيا، ليس لفهم اللغة فقط إنما نموذج لفهم المعنى وتشكيل العلاقات، لتتشكل علاقاتنا بكل ما هو حولنا من خلال العلامات البصرية والصوتية والحركية وكل ما يمكن ملامسته بالحواس، فكل شيء حولنا هو لوحة رمزية . Almerja+2ScienceDirect+2

 

كيف تعمل العلامات والرموز لنقل الرسائل من الدال إلى المضمر ومن اللاوعي إلى الوعي؟

عندما تلامس حواسنا علامة سواء كانت  كلمة أو شكل أو حركة فإن دماغنا لا يلتفت فقط إلى “ما هو ظاهر” بل أيضاً يستدعي “ما يمثّله من رمز”، هذا هو استدعاء المودول (المعنى)، بحسب سوسير يعتمد هذا الترابط على الاتفاق الثقافي أو الاجتماعي، وليس على أي انتماء طبيعي. Media Studiesوبحسب بيرس تصبح العلامة فعالة فقط عندما يُفسّرها متلقٍّ في عملية “semiosis” تجعل العلامة تتفاعل مع تجربتنا ومعرفتِنا وثقافتِنا . signosemio.com

بمعنى آخر: الرموز تُرسل “رسالة” لكنها رسالة مشفّرة داخل ثقافة، داخل وعي جماعي أو فردي، وفي كثير من الأحيان لا ندرك أننا نتلقى أو نرسل هذه الرسالة.

 

كيف تحدد العلامات والرموز علاقاتنا بالآخرين؟

كل تفاصيل حياتنا اليومية تحمل رمزية، ملابسنا: لونها، قصتها، نوعيتها. عطر نستخدمه، نظرتنا، مشيتنا، حركاتنا. الإكسسوارات، مكان السكن، تصميم البيت، ترتيب المكتب. كلها علامات. وعندما تُفهم هذه العلامات ضمن سياق: ثقافي أو اجتماعي أو من خلال نظرة مسبقة فإنها تتحول إلى رسائل تعبر عن هويتنا، مكانتنا، رؤيتنا للحياة، رسالتنا، وحتى مزاجنا، لذا إذا أردت أن تُرسل رسالة إلى الآخرين ثقة، احترام، احتراف، قوة، ودّ، انتماء فعليك أن تختار “علامات” تتوافق مع هذه الرسالة، ليس بالكلام فقط بل بصورة متكاملة: مظهر، سلوك، بيئة، تفاصيل. ومن هنا فإن علاقتنا بالآخرين تتحدد من خلال الرسائل التي نرسلها لهم عبر تلك العلامات والرموز.

 

الرموز رسائل من اللاوعي

غالباً ما ننجذب لا شعورياً إلى الإشياء والأشخاص الذين يرسلون إلينا شعوراً بأنهم يشبهوننا أو يشبهون النموذج المثالي في أذهاننا، وينبع هذا التشابه من الثقافة المتداخلة والتاريخ والتجربة والعادات التي ترسّخ في لاوعي الفرد والجماعة مجموعة من "الدلالات الرمزية" التي تحدد مدى التشابه أو الاختلاف، بالتالي فإن استخدامنا لرموز مألوفة في ثقافتنا مثل الباس أو الون أو الشكل أو العطر أو حتى الحليّ فإننا تجذب تلقائياً مشاعر وأفكار الآخرين بالثقة والانتماء والاحترام والجمال أو التحفظ، وهو ما يحدد مكانتنا في نفوسهم.

وهذا يعني: الرسالة التي تُرسلها عبر رمز ليست فقط ما تفكر فيه، بل ما يشعر به من يستقبله، وهذا التواصل عبر اللاوعي هو ما يجعل الرموز قوية وتأثيرها بعيد المدى.

 

إذا تجاهلنا الرموز نكون عرضة لأن يتم تفسيرنا من قبل الآخرين بناءً على رؤيتهم، لا بناءً على ما نريد نحن، ذلك لأن فهمنا للرموز وقراءتنا للعلامات يمنحنا قدرة على:

  • فهم دوافعنا العميقة ورغباتنا اللاواعية، وما نعنيها لنا حقاً.
  • فهم كيف يفسّرنا الآخرين بناءً على رموزنا "مظهرنا، أفعالنا، أذواقنا، حركاتنا".
  • صوغ "لغة رمزية" متعمدة تنقل الرسالة التي نريدها "قيمة، قوة، مكانة، انتماء".

رسالتي إليك

الرموز لغة خفية، لغة اللاوعي والجمعية، وسيلة نعبر بها عن أنفسنا ليفهمها الآخرين كما نحن نريد، وعندما نتعلّم أن نقرأ الرموز الألوان، الأشكال، الحركات، المساحات، الروائح ندرك كيف يقرأننا الآخرون من خلالها، وعندما نستخدم الرموز بوعي ونختارها بعناية ونكررها بثبات ونُزامنها مع رسالتنا سنتمكن من إرسال الرسالة التي نريدها حقاً.

في عالم اليوم حيث الصورة والانطباع غالباً يتكلّمان أولاً فإن الرموز هي وسيلتنا الأكثر صدقاً لقلب ملامح الواقع نحو ما نريد.