الرموز والسرديات بوصفها موارد معرفية ومادية

الرموز والسرديات بوصفها موارد معرفية ومادية

يُخطئ من يعتقد أن الرموز والأساطير والسرديات تنتمي إلى الماضي أو إلى حقل الفلسفة المجردة، فالعالم الحديث لا يعمل بمنطق الوقائع وحدها، بل يتحرك داخل منظومات رمزية شديدة الدقة، تُنتج المعنى قبل أن تُنتج القرار، وتُوجّه السلوك قبل أن تُصاغ القوانين. إن ما نسمّيه اليوم "الإعلام والدولة والنجومية والتكنولوجيا والتقدم والنجاح هي في الواقع رموز سردية كبرى تعيد تشكيل الوعي الجمعي، وهي بمثابة موارد معرفية تُبنى عليها نماذج أعمال واستراتيجيات سياسية وأنظمة اقتصادية كاملة.

 

أولاً: السرديات الكبرى التي تحكم العالم الحديث

إذا أمعنّا النظر في البنية العميقة للخطاب العالمي، سنجد أن معظم الأنظمة الحديثة تستند بوعي أو دون وعي إلى سرديات أسطورية قديمة أعيدت صياغتها بلغة معاصرة، حيث تظهر سردية الفردوس اليوم في صورة "المدينة الذكية والاقتصاد المزدهر والعيش المثالي" الذي تعد به الإعلانات والدول والشركات الكبرى، بينما سردية السقوط تحضر في خطاب الأزمات والانهيارات الاقتصادية والتهديدات الوجودية مثل تغيّر المناخ أو الذكاء الاصطناعي الخارج عن السيطرة، أما سردية الانقلاب المفضي إلى كارثة في النظام الوجودي فهي القلب النابض لمعظم الخطابات الإعلامية والسياسية المعاصرة، حيث يتم تصوير أي خلل باعتباره نقطة تحوّل تهدد "النظام الطبيعي للأشياء" وتستدعي تدخلاً جذريًا أو تضحية أو اصطفافًا جديدًا. تُستخدم هذه السرديات لتعبئة الجماهي وبالتالي الحصول على الشرعية للجهات التي تصمم السرد وتملكه.

 

ثانيًا: الرموز الحديثة كموارد اقتصادية وسياسية

في هذا السياق تتحول الرموز إلى ما يشبه "الأصول غير الملموسة"، فالإعلام أصبح مصنعًا للرموز الشعورية التي يمليها صاحب الرسالة الإعلامية، والدولة فوق أنها كيانًا إداريًا فهي رمز للأمان أو الخوف والهيبة والانتماء. والنجومية في عصر وسائل الذكاء الاصطناعي والمشاهير أصبحت سردية نجاح قابلة للاستنساخ والتسويق. وبناء على ذلك تمثل التكنولوجيا أسطورة الخلاص أو التهديد، والنجاح هو نتيجة فورية لمن يصنع السرد المؤثر عبر تلك الرموز الحديثة، ولمن يمتلك القدرة على فهم هذه الرموز، وتفكيك سردياتها، وإعادة تركيبها، وبذلك يمتلك موردًا معرفيًا يسبق المال ويُنتج النفوذ قبل السوق.

ثالثًا: السياق العُماني… ثروة غير مستغلة

في سلطنة عمان تتضاعف أهمية هذا المجال. فالمجتمع العُماني يمتلك مخزونًا رمزيًا هائلًا: التاريخ البحري وفسيفساء الثقافة المجتمعية الناتجة عنه، والجغرافيا المتنوعة والسرديات الدينية والوجودية، بالاضافة إلى رمزية التكنولوجيا لدى الجيل زد، والهوية التي تبحث عن معنى أكثر عمق عن الهوية التي ورثوها عن آبائهم، وبالرغم من ثراء هذا المخزون إلا أنه ما يزال يُدار بوصفه تراثًا لا بوصفه موردًا معرفيًا قابلًا للتحويل إلى نماذج أعمال، وسياسات ثقافية، واستراتيجيات ناعمة.

السبب لا يعود إلى غياب المادة، بل إلى ندرة المتخصصين القادرين على العمل في المنطقة الرمادية بين المعرفة العميقة والتطبيق العملي. ونظراً لحاجة الشباب والجيل زد إلى انشطة وطقوس شعورية جمعية تتوافق مع تلك الطقوس التي يمارسها عبر البيئة الرقمية وهي في الغالب هوية لا تقوم على أسس واقعية، فإن المجال ما يزال مفتوحًا، غير مزدحم، ويحتاج إلى شراكات بحثية، ومشاريع تطبيقية، وعقول قادرة على التفكير خارج القوالب التقليدية، للخروج بنماذج مجتمعية تضيف معنى يمزج بين الحداثة والتراث في الولايات والقرى العمانية.

 

إليك

في عالم تُبنى فيه الثروات على المعنى قبل المادة، تصبح الرموز والسرديات بنية خفية ذات قيمة عالية، ومن يفهمها مبكرًا سيكون له شرف السبق في صناعة الواقع.