الأساطير: البنية العميقة للوعي الإنساني في ضوء ميرسيا إلياد
تقدّم الأساطير نفسها — في قراءة ميرسيا إلياد — كمنظومة معرفية تتجاوز كونها “قصصاً” موروثة، إذ تعمل كبنية تفسيرية لوجود الإنسان في العالم، وتمنحه القدرة على فهم الزمن، والمقدّس، والهوية، والعودة إلى “البدايات الأولى”. يرى إلياد أن الأسطورة ليست مجرد إنتاج خيالي، بل طريقة الإنسان القديمة في تنظيم التجربة البشرية ومنحها معنى، وهي في ذلك تمثل شكلاً من أشكال “الحقيقة الأصلية” primordial truth التي تشكّل جذور الثقافة والطقوس والرموز الإنسانية (Eliade, Myth and Reality, 1963).
أولاً: طبيعة الأسطورة كحدث مؤسِّس (Foundational Event)
يرى إلياد أن الإنسان القديم كان يتعامل مع الأسطورة باعتبارها سرداً لحدث وقع في الزمن المقدّس، زمن مختلف عن الزمن التاريخي. فالأسطورة تعيد الإنسان إلى لحظة التكوين الأولى، حين تشكّلت الموجودات، وتحددت بنية العالم. هذا “الزمن المقدّس” — كما يسميه إلياد — يمنح كل طقس وكل ممارسة رمزية معناها العميق لأنها “تُعيد إنتاج” الحدث المؤسِّس نفسه (Eliade, The Sacred and The Profane, 1957).
وبهذا تصبح الأسطورة نموذجاً أصلياً يكرّر الإنسان محاكاته ليعيد التوازن بين عالمه الداخلي والخارجي، فيتحول الفعل الطقسي إلى وسيلة لاستعادة النظام الكوني.
ثانياً: الأسطورة بوصفها لغة رمزية للوعي
يصف إلياد الرموز بأنها لغة الوجود، والغلاف الذي تعبّر من خلاله الأساطير عن بنيتها غير المرئية. فالرموز — سواء كانت جبلًا أو شجرة أو ماء — ليست عناصر مادية، بل دلالات عميقة لرحلة الإنسان نحو اكتشاف المعنى (Eliade, Patterns in Comparative Religion, 1958). الجبل، على سبيل المثال، عند إلياد رمزٌ لـ “المحور الكوني” axis mundi الذي يصل السماء بالأرض، ويرمز إلى صعود الوعي من المستوى الأرضي إلى العلوّي. أما الماء فيمثّل “العودة إلى الأصل”، أي لحظة الولادة من جديد بعد التحلل الكامل للشكل، وهذا ما نراه في طقوس التطهير عبر التاريخ.
بهذه القراءة يصبح الرمز مشحوناً بطاقة نفسية وثقافية، ويعمل كجسر يربط الفرد بالذاكرة الكونية للإنسان، وهي النقطة التي التقت فيها السيميائيات الحديثة مع علم النفس التحليلي.
ثالثاً: الوظيفة الأنطولوجية للأسطورة
يطرح إلياد أن الإنسان لا يستطيع العيش في “عالم بلا أساطير”، لأن الأسطورة تزوّده بموقع وجودي يعرّف من خلاله ذاته. لذلك لا تنتهي الأساطير بانتهاء الثقافات القديمة، بل تعود بأشكال جديدة عبر الأيديولوجيات، والقصص الوطنية، والأعمال الفنية، والسينما، وحتى التكنولوجيا. إن عودة الأساطير في العصر الحديث ليست دليلاً على بدائية الإنسان، بل على حاجته المستمرة إلى إطار يفسّر الواقع ويمنحه معنى. ولذلك يذهب إلياد إلى أن الحداثة لم تُلغ الأساطير، بل غيّرت لباسها.
رابعاً: الأساطير كأداة لإعادة إنتاج الهوية الجماعية
يؤكد إلياد أن الأسطورة ليست حدثاً فردياً، بل أداة لبناء الجماعة. فهي تحدد ما يعتبره المجتمع مقدّساً، وتشكل ذاكرة جمعية تُستخدم لتوجيه القيم والسلوك. ومن هذا المنظور، تعمل الأسطورة كآلية لإعادة إنتاج الهوية الثقافية عبر الأجيال (Eliade, 1963). وتكشف الدراسات الحديثة أن المجتمعات — سواء كانت تقليدية أو صناعية — تبني سردياتها العميقة على هياكل أسطورية: البطل، المخلّص، الأرض الموعودة، العدوّ الأبدي، العصر الذهبي، وغيرها.
خامساً: لماذا تعود الأساطير اليوم بقوة؟
رغم التقدم العلمي والتقني، يعود اهتمام أوروبا والعالم في القرن العشرين بقوة بالسرديات والأساطير، وهو ما اعتبره بعض الباحثين “أحد أهم اكتشافات القرن العشرين”. ويرجع إلياد ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
1. فقدان الإطار المعنوي بعد صدمات الحروب العالمية، مما دفع الفلاسفة والأنثروبولوجيين للبحث عن “جذور المعنى” في الثقافة الإنسانية الأولى.
2. ظهور علم النفس التحليلي وعلى رأسه كارل يونغ، الذي أعاد الاعتبار إلى الرموز والأركتايب بوصفها بنى نفسية عالمية.
3. تطور العلوم الاجتماعية التي اكتشفت أن كل سياسة واقتصاد وثقافة تقوم على سرديات كبرى — وأن فهم هذه السرديات شرط لقراءة السلوك الإنساني.
سادساً: تطبيقات الأسطورة في عالم المال
يمتد تأثير الأسطورة — في تفسير إلياد — إلى المجالات الاقتصادية. ذلك لأن الأسواق المالية تُدار عبر “قصص جماعية” تشبه الأساطير: أسطورة البطل الريادي، أسطورة الشركة المنقذة، أسطورة التكنولوجيا التي ستغير العالم. وتُظهر دراسات الاقتصاد السلوكي أن المستثمرين لا يتخذون قراراتهم بناءً على البيانات فقط، بل بناءً على سرديات تحرك المشاعر الجماعية، تماماً كما تعمل الأسطورة في الثقافة التقليدية. فـ “أسطورة النمو اللانهائي” و”أسطورة الخلاص التكنولوجي” و”أسطورة الرجل العصامي” تصبح أدوات لصناعة الثقة وجذب رأس المال — أي أن الأسطورة في الاقتصاد تتحول إلى محرك نفسي لاستثمارات ضخمة.
هكذا يؤكد ميرسيا إلياد أن الأسطورة ليست ماضياً منسياً، بل آلية اشتغال الوعي البشري، وأن من لا يفهم الأساطير لا يستطيع فهم الإنسان، ولا المجتمع، ولا حتى حركة الأسواق.
مراجع مختارة من مؤلفات ميرسيا إلياد
- Eliade, Mircea. Myth and Reality. New York: Harper & Row, 1963.
- Eliade, Mircea. The Sacred and The Profane: The Nature of Religion. New York: Harcourt, 1957.
- Eliade, Mircea. Patterns in Comparative Religion. London: Sheed & Ward, 1958.