من كتابي بعنوان "نقطة تحوّل"
بيان إبستمولوجي في المسار، الهوية، والقدرة على إنتاج القيمة
المسار بوصفه بنية معرفية
يتحدد مصير الأفراد بدرجة كبيرة وفق المسارات التي يعملون داخلها، لا وفق مقدار الجهد الذي يبذلونه فقط. فكل مسار يحمل ضمن بنيته افتراضات معرفية تحدد ما يُعتبر قيمة وما يُكافأ عليه وما يُهمَّش أو يُستبعد. حين يدخل الفرد مساراً لا يتوافق مع بنيته الإدراكية والمهارية، تتحول الجهود المتراكمة إلى احتكاك دائم مع نظام لا يستجيب لها، فتُستهلك الطاقة دون أن تتحول إلى نتائج قابلة للتراكم.
بهذا المعنى يصبح المسار عنصراً فاعلاً في تشكيل النتائج لا مجرد قناة محايدة للنجاح. ويتطلب فهم الإخفاق تحليلاً لطبيعة هذا المسار لا الاكتفاء بتقييم الدوافع أو الإرادة الفردية.
نقطة التحوّل كإعادة تموضع معرفي
تنشأ نقطة التحوّل عندما يُعاد النظر في الافتراضات التي تحكم العلاقة بين الفرد والمسار الذي يتحرك داخله. هذا التحول لا يحدث على مستوى المشاعر، بل على مستوى إدراك البنية التي تنتج النتائج. فحين يكتشف الفرد أن أدواته تعمل ضمن إطار لا يسمح لها بإظهار كفاءتها، يصبح تغيير المسار ضرورة معرفية، لا خياراً نفسياً.
إعادة التموضع المعرفي تعني الانتقال من محاولة التكيّف مع النظام إلى مساءلة النظام نفسه، ومن البحث عن النجاح داخل بنية مغلقة إلى البحث عن بنية تسمح بتراكم القيمة. عند هذه النقطة تتغير طبيعة الجهد ويصبح الاستثمار فيه ذا مردود واضح.
الهوية بوصفها موقعاً في شبكة المعنى
تتشكل الهوية من خلال الموقع الذي يشغله الفرد داخل شبكة من المعاني والرموز المتداولة في المجتمع. يتحدد هذا الموقع بطريقة إدراك الفرد لذاته وباللغة التي يصف بها قدراته وبالرموز التي يستخدمها لتقديم نفسه. فحين تُبنى الهوية وفق معايير لا تعبّر عن هذه البنية الداخلية، يصبح الفرد تابعاً لسرديات لا تمثله، وبالتالي يتحول إلى منفذ لأدوار صُممت لغيره.
أما التحول الحقيقي في الهوية فينشأ عندما تُعاد صياغتها بوصفها تموضعاً معرفياً واعياً، يربط بين القدرة الفعلية، والرمز المستخدم للتعبير عنها، والأثر الناتج عنها في الواقع. في هذه الحالة تتحول الهوية إلى أداة إنتاج معنى وقيمة أكثر من كونها توصيفاً اجتماعياً.
الموهبة ورأس المال الكامن
تظهر الموهبة في قدرتها على تحويل الجهد إلى قيمة يمكن تداولها واستمرارها. هذه القدرة تعمل كرأس مال الكامن، يسبق كل أشكال الثروة المادية، ويحدد إمكان تحققها. فالموهبة تمثل نقطة التقاء بين الكفاءة المعرفية، والمهارة العملية، والحسّ الرمزي القادر على قراءة السياق وتحويله إلى فرصة.
عندما يُستثمر هذا الرأس المال داخل مسار يسمح له بالعمل، تتولد النتائج بشكل تراكمي. أما حين يُوضع في بيئة لا تعترف به، فيتحول إلى طاقة معطّلة، ويضطر الفرد إلى التعويض عبر الجهد المفرط أو الانتظار الطويل، دون تحقيق تقدم نوعي.
الرموز كآليات تنظيم للوعي والقيمة
تعمل الرموز بوصفها أدوات تنظّم ما يُرى وما يُعترف به داخل المجال الاجتماعي. فهي تحدد أشكال النجاح المقبولة وصور التأثير المشروعة وأنماط الخطاب التي تُمنح الشرعية. القدرة على قراءة هذه الرموز وفهم منطقها تمنح الفرد موقعاً متقدماً داخل البنية، بينما يؤدي الجهل بها إلى الخضوع غير الواعي لقواعدها.
يكون التحول الشخصي تحولاً فعلياً في الموقع الاجتماعي حين يُعاد توظيف الرموز بما يخدم الهوية والقدرة الحقيقية للفرد. عندها يصبح إنتاج القيمة مرتبطاً بامتلاك أدوات القراءة والتأويل، لا بمجرد الامتثال للسائد.
أطروحة التحوّل
يتحقق النجاح عندما يعمل الجهد داخل مسار يسمح له بإنتاج قيمة متراكمة، ويتوافق مع البنية المعرفية والمهارية للفرد. تغيير النتائج يمرّ عبر تغيير هذا التوافق، لا عبر تكثيف المحاولة داخل الإطار ذاته. بالتالي فإن نقطة التحوّل في جوهرها هي إعادة بناء العلاقة بين القدرة والمسار والهوية.
خاتمة
يمثل التحول التزاماً معرفياً بإعادة النظر في المسارات، والرموز، وصورة الذات، قبل البحث عن نتائج مختلفة. فحين تُبنى الحياة حول القدرة الفعلية، ويُستثمر رأس المال الكامن في بيئة مناسبة، تصبح النتائج امتداداً منطقياً لبنية صحيحة يمكن من خلالها تحقيق النجاح المنشود.
ملحق إبستمولوجي
الإطار النظري الذي يستند إليه هذا النص
يتقاطع هذا النص مع عدد من المقاربات الإبستمولوجية المعاصرة التي تعيد تعريف العلاقة بين المعرفة والفعل وإنتاج القيمة دون أن يتبنى إحداها بشكل اختزالي، حيث ينسجم فهم المسار بوصفه بنية معرفية مع أطروحات ميشيل فوكو حول أن دور الأنظمة هو تنظّيم السلوك وانتاج أنماط محددة من المعقولية، وتحدد ما يمكن أن يُقال ويُفعل داخلها. فالمسار وفق هذا المنظور يعمل كإطار يوزّع الشرعية المعرفية ويضبط إمكانات الفعل.
كما يتقاطع مفهوم إعادة التموضع المعرفي مع أعمال توماس كون حول تحوّلات النماذج المعرفية، حيث يرى بأن النتائج تتغير بتبدّل الإطار الذي تُفهم من خلاله المشكلة أصلاً. نقطة التحوّل هنا تماثل الانتقال من نموذج مفسِّر مستنفد إلى آخر يسمح بإنتاج معنى جديد.
أما تناول الهوية بوصفها موقعاً داخل شبكة من المعاني فيجد جذوره في علم الاجتماع المعرفي، خاصة عند بيير بورديو، حيث تُفهم القيمة والاعتراف ضمن حقول رمزية تحكمها أشكال مختلفة من رأس المال، ويُعاد إنتاج التفاوت عبر القدرات وتموضع الأفراد داخل هذه الحقول.
ويستند مفهوم رأس المال الكامن إلى تقاطع بين الفلسفة الأرسطية في فهم الإمكان (Potentiality) والقراءات المعاصرة للاقتصاد المعرفي، حيث تُقاس القيمة بما هو ظاهر وما هو قابل للتفعيل ضمن شروط بنيوية مناسبة. في هذا السياق تعمل الموهبة كقدرة كامنة لا تتحول إلى قيمة إلا إذا وُضعت داخل مسار يسمح لها بالتحقق.
أما الرموز فيُتعامل معها بوصفها أدوات معرفية لتنظيم الوعي وإنتاج الشرعية، وهو تصور يلتقي مع السيميولوجيا الثقافية ومع أعمال رولان بارت حول الأسطورة الحديثة، حيث تتحول الرموز إلى حوامل لمعنى اجتماعي يتجاوز وظيفتها الظاهرة، ويعيد تشكيل ما يُعتبر طبيعياً أو بديهياً.
بهذا المعنى، لا يقدّم النص دعوة تحفيزية، بل ينطلق من رؤية إبستمولوجية تعتبر التحوّل نتيجة لإعادة بناء العلاقة بين المعرفة، المسار، والقدرة على إنتاج القيمة، داخل بنية رمزية محددة.

