رمزية المكان في محافظة جنوب الشرقية: قراءة في ارتباط الوعي بالبعد المكاني والجغرافيا
تُعدّ رمزية المكان في الثقافة العُمانية أحد أهم مفاتيح فهم البنية الشعورية للجماعات، إذ تتجاوز الجغرافيا حدودها الفيزيائية لتتحول إلى مخزنٍ للذاكرة، ومولدٍ للمعنى، وبيئةٍ تنتج سلوكًا ورمزًا وهوية. وفي جنوب الشرقية وتحديداً الشريط الساحلي الممتد من صور إلى الدقم وبشكل خاص في الأشخرة وراس الحد، تظهر هذه الرمزية في أعلى صورها، حيث تتشابك الأسطورة مع البحر، والصوت مع الريح، والإنسان مع فضاءٍ مفتوح يشبه حدس المستكشفين.
المكان كـبنية رمزية: تجوال روحي في جنوب الشرقية
تتميّز جنوب الشرقية بكونها نقطة تماس بين اليابسة والمحيط، وبين الاستقرار والترحال، وبين الأثر البري والامتداد البحري. في علم الرموز تُعرف هذه المناطق بالمناطق الانتقالية Liminal Zones، وهي أماكن يتغير فيها الوعي الجمعي ويتسع فيها خيال الناس وسردياتهم، لأنها تقع عند حدود بين عالمين متداخلين.
ويُلاحظ أن المجتمعات الساحلية في هذه المنطقة طوّرت رموزًا ذهنية وجمالية تعكس هذا التوتر الإبداعي بين "الأرض التي تُمسك بك" و"البحر الذي يدعوك للخروج". وهذه الثنائية ليست مجازًا أدبيًا، بل بنية شعورية تتكرر في كل الحكايات البحرية العُمانية، وفي طقوس الصيد، وفي ذاكرة السفن التي حملت الإنسان العُماني نحو الهند وشرق أفريقيا في رحلات شكلت فكر جمعي لدى سكان المنطقة يلتسق في مخيلاتهم ويكون تجاربهم بشكل لا إرادي.
الأشخرة: تجربة ثرية لإعادة تشكيل الوعي
الأشخرة ليست مجرد شاطئ ممتد على المحيط الهندي؛ إنها فضاءٌ رمزي يعيد تشكيل الإحساس بالذات. في الدراسات الأنثروبولوجية تُصنّف البيئات المفتوحة ذات الأفق اللامنتهي بأنها "مسرّعات للوعي المستكشف" لأنها توسّع الإدراك وتحرّك الرغبة في الذهاب أبعد من النقطة التي تقف عندها القدم.
في الأشخرة، يتولّد هذا الأثر من ثلاثة عناصر بصرية وشعورية:
أولاً: الأفق المائي اللامتناهي
الأفق في الوعي العُماني رمز قديم للرحلة. والمحيط في الأشخرة يفتح وعياً مختلفًا عن الوعي الذي تمنحه البحار المغلقة، إذ يشعر الإنسان أنه يقف أمام مجهول هائل، ومع ذلك يجذبه إليه. هذا الإغراء بالمجهول هو ذاته ما جعل العُماني القديم رائدًا في التجارة والاكتشاف.
ثانيًا: الريح الشرقية
ريح الأشخرة ليست مجرد ظاهرة مناخية؛ إنها حامل رمزي. في المخيال الشعبي، الريح هي "مرسال" "طارش"، تحمل أخبارًا وتغييرات. وفي جنوب الشرقية وعلى طول السواحل المحاذية للمحيط الهندي ارتبطت الريح بالتحول، بموسم السفر وامكانية مغادرة المكان، وبعودة السفن، وبالبدايات الجديدة. لذلك أصبحت الريح هنا رمزًا للانتقال الداخلي والنضج، فعندما تشعر بتأثير الريح تتذكر البحارة الذين كانوا ينتظرونها بصبر من أجل أن تحملهم في سفنهم الشراعية إلى عوالم أخرى ليعيشوا نشوة الاستكشاف.
ثالثًا: الرمال التي تتحرك باستمرار
حركة الرمال عند الشاطئ تُكوّن ما يشبه "السجل المتحوّل للمكان". إنها تمحو آثار الأمس وتكتب آثار اليوم، وبالتالي فهي رمز للتجدد والمرونة. في علم الرموز تُعدّ الرمال المتحركة علامة على وعي لا يحب الثبات، بل يستجيب للتغيير، ويعيد تشكيل نفسه باستمرار.
الأشخرة كحقل أسطوري
كل مكان ينتج أسطورته الخاصة، سواء قيلت صراحة أو سكنت في الأعماق. والأشخرة تمتلك أربعة جذور أسطورية يمكن تفكيكها علميًا:
1. أسطورة العبور. منذ القدم، كان يُنظر إلى مناطق الساحل المفتوح بوصفها "بوابات إلى العالم الآخر"؛ ليس بمعنى ما وراء الطبيعة، بل بمعنى عالم الإمكانية. الأشخرة تؤدي هذا الدور رمزياً، فهي بوابة ذهنية تفتح للمقيم والزائر فكرة الخروج من النسق اليومي إلى فضاء أوسع.
2. أسطورة الهدوء الذي يخدع. تبدو الأشخرة هادئة، ومساكنها قديمة وطرقها طافيه فوق "الخور" الذي يغير ملامحها باستمرار، لكن المحيط خلفها شديد القوة. هذه الثنائية "السكون على السطح والقوة في العمق" تُجسّد نموذجًا نفسيًا للنضج العُماني: اللطف الظاهر والصلابة الباطنة.
3. أسطورة الصياد العائد. تكررت في الأشخرة روايات البحّار الذي يعود محملاً بما هو أكثر من السمك؛ يعود بخبرة ونُضج ورؤية جديدة. هذه السردية أعادت تشكيل الوعي المحلي بأن البحر ليس مصدر رزق فقط، بل مصدر معرفة، لذلك فإنك تجد انعكاسات الحكمة في وجوه كبار السن في الأشخرة، وقدرتهم على الاجابة على تساؤلات الجيل الجديد حول ما يعترضهم من تغيرات طبيعية لها تفسير مرجعي في مخزون التراث السردي لدى الآباء.
4. أسطورة الكنز المغمور في أعماق المحيط. وهي قراءة رمزية حديثة: المحيط رمز القوة والعمق والثراء، وفي بيئة الأشخرة يصبح رمز للإنسان ذو الفكر العميق والذي لم يستخرج بعد ما في أعماقه من امكانات وقدرات، ويمكنه أن يشحذ نموذج "الاستعداد الداخلي" عندما يواجه ذاته ويقف أمام كنوز المحيط العظيمة.
ماذا تكشف رمزية الأشخرة عن الإنسان العُماني؟
يمكن تلخيص الوعي الرمزي للأشخرة في ثلاث نتائج تحليلية:
1. ميلٌ طبيعي نحو الاستكشاف. البيئة التي تواجه المحيط تُكوّن شخصية تميل للمغامرة المحسوبة، والقفز المدروس نحو المجهول.
2. حساسية عاطفية عالية تجاه التغيير. التفاعل اليومي مع البحر والريح يُكوّن وعياً مرناً، قادرًا على تقبل الفقد والتحول، دون أن يفقد جذوره.
3. توقٌ مستمر للمعنى. المكان يوجد حاجة للبحث عن الحكمة خلف الظواهر، وعن القصة خلف الأمواج. وهذا ما يفسر كثافة الرموز في الثقافة البحرية العُمانية.
سرد رمزي شخصي خاص بالأشخرة:
الأشخرة بالنسبة لي هي فرصة لاعادة اكتشاف ذاتي، يمكنني أن أقرأ عقلي اللاواعي قراءة أكثر وضوحاً وتركيزاً عندما أكون قريباً من شاطئ الأشخرة، عندما أغلق عيني أجد نفسي وبدون أي مقدمات أغوص في اعماق البحر واستكشف المخلوقات البحرية التي تختبئ في التضاريس والتكوينات الصخرية تحت الماء، اجد المرجان ذات الأشكال الفضائية والقشريات التي تبلغ في ظآلتها حجم رأس الدبوس والعوالق النباتية والبكتيريا المضيئة التي تكسر عتمة المكان، بعد أن أذهب عميقاً بين تلك الصخور ذات الطبوغرافيا المعقدة أجد من اليسير التجول في تضاريس الدماغ التي لا تتكشف للعقل الواعي، في النهاية عندما أقضي ثلاثة أو أربعة ليالي بالقرب من هذا العملاق المائي المليء بالحياة أعود إلى مسقط محملاً بالأفكار التي لن يعود معها وعيي كما كان.
خلاصة
الأشخرة، بوصفها رمزًا وليست مكانًا فقط، تُجسد الوعي العُماني في واحدة من أنقى صورِه: وعيٌ يرى في الطبيعة مدرسة، وفي المحيط سؤالًا مفتوحًا، وفي الريح دعوة للتجدد. وفهم رمزية الأشخرة يفتح بابًا علميًا لفهم كيف تُشكّل الجغرافيا الوجدان، وكيف يمكن للبيئة البحرية أن تكون مختبرًا نفسيًا لصناعة إنسان أكثر قدرة على الاستكشاف، والصبر، والبحث عن المعنى.