رولان بارت في عصر السلطة الرقمية

رولان بارت في عصر السلطة الرقمية

عالج رولان بارت في كتابه "أسطوريات" الذي كتبت نصوصه خلال الفترة من 1954 إلى 1956 آليات تحويل الظواهر اليومية إلى معانٍ طبيعية، حين تُفرَّغ العلامات من تاريخها الاجتماعي والسياسي، وتُعاد صياغتها بوصفها بداهات لا تقبل المساءلة. لم تكن الأسطورة عند بارت كذباً مباشراً، بل نظاماً دلالياً يُخفي علاقات القوة خلف واجهة البراءة. تعزز هذا المنطق في العصر الرقمي، ليبلغ درجة عالية من التنظيم والقوة التي اكتسبها من سيطرة الخوارزميات على المنظومة السردية ككل.

تُشكّل الخوارزميات اليوم الامتداد البنيوي لما وصفه بارت بالأسطورة الحديثة. لم يعد الخطاب الأسطوري يُنتَج عبر اللغة وحدها بل عبر أنظمة تقنية تتحكم في شروط الظهور، وتعيد ترتيب العلامات داخل الفضاء العام. الخوارزمية لا تكتب المعنى لكنها تحدد أي المعاني سيتم تداوله وأيها سيُترك خارج مجال الرؤية. بهذا المعنى تنتقل الأسطورة من مستوى الخطاب إلى مستوى البنية.

يستمر مبدأ بارت الأساسي هنا دون انقطاع: فما يبدو طبيعياً هو في جوهره مُنتَج ثقافي. غير أن "الطبيعي" في زمن السوشال ميديا لم يعد نتيجة تراكم تاريخي بطيء، بل نتيجة تكرار خوارزمي سريع. التكرار يمنح العلامة سلطة، والحضور المستمر يحوّل الجزئي إلى كلي، والعابر إلى مرجعية تفسيرية. هكذا يُعاد تشكيل العقل الجمعي عبر آلية ظهور لا عبر خطاب إقناع مباشر.

تتقاطع هذه الرؤية مع تحليل ميشيل فوكو للخطاب بوصفه ممارسة سلطة. فالخطاب عند فوكو لا يقتصر على ما يُقال بل يشمل ما يُسمَح له أن يُقال ومن يملك حق قوله وفي أي سياق. الخوارزميات تعمل كجهاز ضبط معرفي يحدد شروط الخطاب المقبول. لا تُقصي الآراء عبر المنع الصريح بل عبر التهميش الخفي وعبر تقليل الوصول وتضييق الانتشار وإعادة ترتيب الأولويات. السلطة هنا لا تمارس القمع بل التنظيم.

أما من منظور جاك دريدا فإن ما يحدث هو إعادة كتابة مستمرة للمعنى عبر التأجيل والاختزال. السرديات الرقمية لا تستقر لكنها تتكاثر في صيغ مختصرة قابلة لإعادة النشر ومنزوعة السياق. الدلالة لا تُفهم بوصفها بنية مكتملة، بل بوصفها أثراً للحظة المرور. هذا يجعل السرديات المعاصرة هشة من حيث المعنى لكنها قوية من حيث التأثير. التفكيك هنا لا يتم بوصفه ممارسة نقدية واعية بل كأثر جانبي لاقتصاد السرعة.

في هذا السياق يقدّم بول فيريليو بعداً حاسماً لفهم التحول. السرعة لم تعد خاصية تقنية بل بنية وجودية للخطاب. ما لا يُقال بسرعة لا يُسمَع. وما لا يُختصر لا ينتشر. الزمن السياسي والزمن الثقافي والزمن الأخلاقي كلها تُضغط في لحظة آنية تُلغي العمق لصالح الأثر. السرديات الكبرى لا تختفي لكنها تتحول إلى ومضات وإشارات وانفعالات قصيرة العمر.

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وفق هذا المنظور مختبراً مفتوحاً لرصد تشكّل الأساطير المعاصرة. يمكن تتبع القيم الصاعدة وأنماط المشاعر وأشكال الفضيلة المصوّرة وتمثيلات الهوية بوصفها مواد خام لأسطورة رقمية قيد التشكل. ما كان بارت يحلله في الإعلانات والمجلات يظهر اليوم في الترندات والمقاطع القصيرة واللغة البصرية المكثفة.

تعمل هذه المنصات كوعاء سردي يعيد تنظيم العلاقة بين الفرد والمعنى. التعبير عن الرأي يتحول إلى علامة، والموقف الأخلاقي إلى أداء، والانتماء إلى إشارة قابلة للقياس. العقل الجمعي لا يُصاغ عبر الحوار بل عبر التفاعل العددي. هنا يتحقق ما يمكن تسميته بالأسطورة الخوارزمية بمفهوم "واقع يُقدَّم بوصفه نتيجة اختيار جماعي"، بينما هو في جوهره ناتج عن تنظيم تقني للانتباه قد تتدخل في وضع سياساته وأسسه وحدوده الاخلاقية الكيانات التي تتحكم في الخوارزميات.

لو امتد مشروع أسطوريات إلى زمننا لما اكتفى بارت بتحليل المحتوى كونه تصويراً لادعاءات لتشكيل السرد الجماعي بل لتوجّه إلى تفكيك البنية التي تنتجه وكيف ينتج. ولانشغل بما يُقال (الدال) وكيفية نقله (الناقل) والمعنى الذي ينقله (المدلول).