تطور فهم الرموز: من العلامة الشعرية إلى البنية العميقة ثم إلى اللاوعي الطافي فوق سطح الواقع

تطور فهم الرموز: من العلامة الشعرية إلى البنية العميقة ثم إلى اللاوعي الطافي فوق سطح الواقع

لم تتعامل الحضارات القديمة مع الرموز باعتبارها شكلاً جماليًا فحسب، بل باعتبارها المفتاح الأول لفهم العالم. ومع تطور الفكر الإنساني، تغيّرت وظيفة الرمز من “إشارة حسّية” إلى “بنية معرفية” ثم إلى “أداة تفكيك للاوعي”. هذا المسار يمكن قراءته عبر ثلاث محطات كبرى: الرمزية، البنيوية، السيريالية، قبل أن تتجه أوروبا في القرن العشرين إلى إعادة اكتشاف السرديات والأساطير بوصفها المصادر الأعمق لفهم الإنسان وسلوكه، خصوصًا في الثقافة والاقتصاد.

 

أولًا: المرحلة الرمزية – الرمز كنافذة روحية على ما وراء الواقع (Symbolism)

ظهرت الحركة الرمزية أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا وبلجيكا، وكانت ردّ فعل على العقلانية الشديدة التي طغت على أوروبا بعد الثورة الصناعية. اعتبر الرمزيون أن اللغة عاجزة عن نقل الحقيقة العميقة، وأن الرمز وحده قادر على كشف “الروح” التي تقف خلف الأشياء.

جوهر الرمزية يقوم على ثلاث ركائز:

1.   الرمز كمعنى مخفي.كل شيء يحمل دلالة أعمق من شكله الخارجي: الوردة ليست زهرة، بل “رائحة العاطفة المخبأة”.

2.   الهروب من الواقع إلى الداخل. كان الشاعر الرمزي لا يصف الخارج، بل يصف ارتجاجاته الداخلية.

3.   المعنى قبل الصورة. القيمة ليست في الشكل بل في الدلالة التي يفتحها الشكل.

بهذا تحوَّل الرمز إلى “عدسة روحية” يعبر من خلالها الوعي إلى مناطق لم تُستكشف بعد.

 

ثانيًا: المرحلة البنيوية – الرمز كبنية ذهنية تحكم السلوك والمعنى (Structuralism)

في منتصف القرن العشرين، انقلبت النظرة إلى الرموز مرة أخرى، لكن هذه المرة من بوابة الأنثروبولوجيا واللسانيات. فبدل أن تُفهم الرموز كصور شعرية، أصبحت تُقرأ كبُنى عميقة تحكم اللغة، الثقافة، والأساطير.

أبرز مفاهيم البنيوية:

1.   الرموز ليست فردية، بل جماعية. كما رأى كلود ليفي-شتراوس، الأسطورة ليست قصة، بل “نظام تفكير” متكرر عبر الثقافات.

2.   الهياكل قبل الظواهر. كما قال دي سوسير: ما نراه على السطح نتاجٌ لبنية أعمق غير مرئية.

3.   الرمز جزء من منظومة. لا يمكن فهم رمز إلا داخل شبكة من العلاقات: (الأب/الابن)، (البطل/الظل)، (الحياة/الموت).

تؤكد البنيوية أن الإنسان لا ينتج رموزه بحرية كاملة؛ بل يعمل داخل “شفرة عقلية مشتركة” يتكرّر نمطها في كل الثقافات. هذه الشفرة هي الجد الأعلى لكل سردية أو معتقد أو سلوك.

 

ثالثًا: المرحلة السيريالية – الرمز كصوت اللاوعي (Surrealism)

بعد الحرب العالمية الأولى، ومع الصدمة النفسية العميقة التي عاشتها أوروبا، ظهرت السيريالية كحركة لا تهتم بالمنطق بل بالانفجار الداخلي للخيال. هنا لم يعد الرمز “مقصودًا” ولا “منظّمًا” بل تدفقًا غير مراقَب من اللاوعي.

مبادئ السيريالية في فهم الرموز:

1.   الرغبة والصدمة أهم من العقل. الرمز هنا نتيجة صراع داخلي أو انكسار نفسي.

2.   الحلم هو البنية الحقيقية للعقل. كما قال فرويد: اللاوعي يستخدم الصورة وليس اللغة.

3.   تفجير العلاقة بين الشكل والمعنى. السمكة في السيريالية قد تطير، والظل قد ينفصل عن صاحبه.

بهذا أصبحت الرموز مفاتيح لفهم “مكبوتات الإنسان”، لا جمالياته فقط، ما أعطى السيريالية قوة تفسيرية في الفن والتحليل النفسي والسياسة.

 

متى وكيف اهتمت أوروبا بالرموز والسرديات والأساطير الإنسانية؟

رغم أن أوروبا الحديثة تبدو عقلانية، فإن القرن العشرين شهد عودة ضخمة للاهتمام بالأساطير والرموز. الأسباب أربعة:

1. انهيار السرديات الكبرى بعد الحربين

فقد الإنسان الأوروبي ثقته في “العقل وحده”، وأدرك أن الحقيقة لا تكفي لصناعة المعنى، وأن البشر يحتاجون إلى قصة، رمز، وإطار نفسي يعيشون بداخله.

2. ولادة علم النفس التحليلي

قدّم كارل يونغ تفسيرًا جديدًا:  الأسطورة ليست خرافة. الأسطورة نمط نفسي بدائي يعيش داخل الإنسان. ومن هنا بدأت الجامعات الأوروبية تدرس الرموز كخريطة لفهم السلوك والحضارة.

3. تطور التسويق والإعلام

اكتشفت الشركات أن المستهلك لا يشتري المنتج، بل “القصة” المرتبطة به: سيارة = حرية عطر = جاذبية ساعة = سلطة وبدأت الأبحاث الاقتصادية تُظهر أن السردية أقوى من الوظيفة.

4. انفجار البحث في الاقتصاد السلوكي

دانيال كانيمان، ريتشارد ثالر، وجورج لوينستين أثبتوا أن القرارات المالية لا تُبنى على العقل بل على:

  • الصور
  • الرموز
  • الانطباعات
  • المشاعر

فأصبحت الرموز جزءًا من أدوات فهم الأسواق.

 

كيف تم تطبيق فهم الرموز في عالم المال؟

1. العلامات التجارية كأركتايب (Brand Archetypes)

تبنّت الشركات إطار كارل يونغ لتصميم الهويات التجارية:

  • Apple = الساحر
  • Nike = البطل
  • Tesla = المستكشف
  • Rolex = الحاكم

هذه الرموز ليست جماليات، بل “شفرة تأثير” تضبط سلوك المستهلك.

2. قراءة الأسواق عبر السرديات (Narrative Economics – Shiller)

الحائز على نوبل روبرت شيلر يرى أن الأسواق تتحرك بفعل “القصص” لا الأرقام.
فقصة “التكنولوجيا ستغيّر العالم” رفعت أسهم الدوت كوموقصة “الخوف من الانهيار” دمّرت سوق 2008

السوق يستجيب للرمز قبل أن يستجيب للعائد.

3. بناء المنتجات المالية عبر الهوية الرمزية

الاستثمار الأخضر ≠ مجرد مشاريع بيئية بل رمز للهوية الأخلاقية للمستثمر

البيتكوين ≠ عملة رقمية بل رمز للتمرد على النظام المالي التقليدي

الصناديق السيادية ≠ أدوات اقتصادية بل رموز قوة وطنية ورؤية مستقبلية للدولة

4. صناعة الثقة عبر الرموز

البنوك، شركات الاستثمار، الصناديق… جميعها تستخدم الرموز لإنتاج “ثقة نفسية” قبل الثقة الحسابية:

  • اللون الأزرق = أمان
  • الحصان = قوة
  • الشجرة = استدامة
  • الجناح = طموح

فالسؤال ليس: ما الذي نعرضه؟ بل: ما الرمز الذي يشعر به العميل حين يرى المنتج؟

 

خلاصة تنفيذية: لماذا علينا فهم الرموز اليوم؟

لأن عصر الاقتصاد المعرفي يعتمد على “المعنى قبل المنتج”، و“السردية قبل الوظيفة”. الرموز اليوم ليست زينة، بل أدوات:

  • لتحليل الأسواق
  • لصناعة الثقة
  • لخلق هوية أعمال
  • لبناء تأثير في الجمهور
  • لتأسيس منتجات جديدة
  • ولتوجيه سلوك المستثمر والمستهلك

إن فهم الرموز هو المفتاح الجديد للقرن الحادي والعشرين: مفتاح يقرأ الداخل، ويفسر الخارج، ويخلق فرصًا في عالم المال لا يراها من يعتمد على الأرقام وحدها.